الخميس، 8 نوفمبر 2012

سامراء شابة عمرها 8 الآف سنة


سامراء شابة عمرها 8 الآف سنة
ليس عجباً ان تقلد المدن الانسان وتتشبه به حتى يصل الشبه بينهما حداً يصعب معه التمييز، فهي تولد وتنمو وتكبر وتهرم، وقد تجدد شبابها وتستعيد عافيتها، وقد تموت وتغرق، وقد يذبل عودها حباً!! وغير هذا وذاك تلجأ أحياناً الى تغيير اسمها أو سكنها وتلجأ احياناً الى الهجرة وفي أحيان كثيرة تستبدل زينتها ومعالم شخصيتها وربما تضجر من متاعب الدنيا فتنـزل الى باطن الارض وتختفي الى الابد!
ذلك هو الذي يجعلنا نقف مشدوهين أمام بعض المدن، فلا نستطيع التعرف عليها، وقد ننكرها لأنها أصبحت أبعد ما يكون عن دائرة معلوماتنا.. وعن الذاكرة.
سامراء.. من بين قلة قليلة من الكائنات الحية، مهما اتسعت أو ضاقت او مهما جفاها الزمن أو واصلها فلا يمكن للعين وحاسة الشم ان تخطئها ليس فقط لأنها عائمة على بحيرة مغمورة بالشواهد التي لا تفتأ تكشف عن خبايا وأسرار جديدة، وانما لكونها كذلك عامرة بشواخص الآثار العملاقة التي لم تقدر مرارات الاحداث أن تنال منها على مر العصور.
ما بين ماضٍ يمتد 8 آلاف سنة، وبين حاضر ينبسط على 4504 كم2 من الحياة المزدحمة بصخب الحياة، وما بين تضاريس مستوطنة تعُد من أوائل المستوطنات البشرية في العالم ما زالت بقاياها وبقايا توابعها العباسية تحتل مئات الأميال المربعة من تزاحم الترف والحضارة والقصور والمآذن وبين مدينة قيل انها لسعتها (أوسع موقع آثاري في العالم) ما بين هذه (البيّنات) مجتمعة يصعب حشر الجسد الطويل العريض العميق الراهي في ثوب (الصوت الآخر) الرقيق القصير الشفاف الضيق!
حكاية اللعبة
السفر الى الموصل هو سفر الى وجهة الشمال، وسامراء نقطة عند طريق نينوى، على مبعدة 125كم شمال بغداد و50كم قبل تكريت من جهة الجنوب، وتقع بين محافظتي ديالى والانبار من ناحيتي الشرق والغرب وبين قضائي تكريت وبلد من ناحيتي الشمال والجنوب.
دجلة يقسم العاصمة الى يمين ويسار، كرخ ورصافة، والوصول الى سامراء يبدأ بالانطلاق من اليمين، من الكرخ، وتواصل المركبة مسارها الى مدينة المعتصم على مدى 125كم في جانب الكرخ الى يمين دجلة لا تحيد ولا تنحرف، وهكذا تعلن سامراء عن كرخيتها الصميمية، ثم فجأة، في لحظة مباغتة سريعة، تعبر المركبة النهر، فاذا المدينة تغير بطاقة سكنها وتصبح في لعبة جغرافية ماكرة، رصافية السكن يسارية الموقع، ولكن (السوامرة) لم يعترفوا بدرس الجغرافية الطبيعية لأن قلوبهم يمينية الهوى، كرخية العشق! حين غادر المعتصم بالله بن هارون الرشيد مملكة والده واتخذ سامراء عاصمة لملكه الجديد عام 836م، لم يكن معنياً بلعبة النهر واليمين واليسار فقد كان رأسه متعباً مما جنته يداه بعد اعتماده على الجنود الترك الذين عاثوا في الارض طغياناً، وبعد انحيازه لفلسفة المعتزلة وانتصاره لهم على حساب الآخرين ولهذا توجس الرجل خيفة مما آلت اليه اوضاع بغداد الداخلية فراح يبحث عن مكان أمين وآمن وأرسل عيونه يتقرون المواضع، بل كان يتقرى بنفسه حتى تم الاهتداء الى (دير) في ارض طيبة الهواء والتربة والماء وساوم ساكنيه على خمسة آلاف دينار فكان له الشراء. وبناء على ما اجمع عليه المؤرخون فان هذا المكان الذي قر عليه القرار اتسم بصفات اكثر اهمية للمعتصم من كونه طيب الهواء والتربة والماء، لأنه موقع حصين تكاد المياه تحيطه من جميع أطرافه مؤلفة خطاً دفاعياً عن المدينة الجديدة وخطاً لنقل البضائع والتجارة مع مدن العراق الأخرى، هذا زيادة على ارتفاع المكان الذي من شأنه مواجهة أخطار الفيضان.. وكان ذلك الدير في موقع يقال له (سامرا).. من غير همزة وعلى هذا الموقع قامت المدينة واتسعت ودامت حتى هذا اليوم.
حكاية الهمزة
تفيد المعلومات التاريخية بأن حواراً مبتسراً دار بين اصغر أبناء الرشيد وهو المعتصم بالله وبين كبار المسؤولين عن الدير
سأل الخليفة: ما اسم هذا الموضع؟
أجابوه: هذا الموضع يدعى (سامرا) ودوّر الخليفة هذه اللفظة في قاموس معرفته فلم يجد لها جذراً ولهذا عاد وسأل: وما معنى سامرا؟
فردوا عليه: تجدها يا مولانا الأمير في الكتب السالفة والامم الغابرة فأنها مدينة سام بن نوح.. ولم يكن الوقت سانحاً امام الخليفة ليحاور طويلاً لأن شغله الشاغل في تلك اللحظة، هو صورة مدينته المستقبلية وظلت سامراء من غير همزة في ذهن المعتصم وذهن التاريخ.
بعد1168 سنة على قيام هذه المدينة تطورت علوم اللغة والتأريخ والأسماء وصرنا نعرف بان سامراء ترجع الى عصر حلف (5000-4500ق.م) فيما عثر الدكتور أحمد سوسة على فخاريات تعود الى العصر الحجري الحديث وقرر بأن المدينة كانت مأهولة بالسكان منذ اكثر من 6 آلاف سنة ق.م.. وخلال هذا الزمن البعيد منحها الآشوريون اسم (سرمارتا) الرومان والسريان منحوها اسم (سومرا) وذهب جمع من المؤرخين واللغويين الى القول بأنها من اصل (سامي) قديم، وقد يكون اصلها (شامريا) أو (شامورة) وتعني الاولى (الله يحرس) فيما تعني الثانية (منـزل الحرس)، وقيل فيما قيل من أسمائها (سر من ري- سر من راءٍ- سراء- سامره) وشاعت بيننا باسم (سر من رأى- وساء من رأى) والاولى اختصار لوصف (سرور من رأى) كما يذكر الحموي اسمها عند بدء تأسيسها، والثاني هو وصف للمدينة بعد أن نال منها الخراب ما نال كما شاعت لدى البعض بأنها (زوراء المعتصم) حتى استقر الأمد عند سامراء وهو اسمها الرسمي في سجلات الحكومة والبطاقة التموينية!
حكاية التعارف
لحظة الاقتراب من المدينة يصار الى عملية تعارف اولية تأخذ هيأة مزارع على يمين النهر مع حي سكني واسع فيما تفترش يسار الشارع الرئيس صفوف طويلة من دكاكين الخضار والمرطبات والمواد الغذائية وعند رأس سامراء تقوم محطات وسدود ومنشآت لتوليد الكهرباء والتعرف بمناسيب المياه.
مركز المدينة وثقلها الحياتي يقدم نفسه عبر ذلك البناء الديني التراثي الفخم الذي تربو مساحته على 19 ألف م2 ويضم ضريحي الامامين علي الهادي وولده الحسن العسكري عليهما السلام الى جانب عدد من الاضرحة الطاهرة وسرداب الغيبة، وأهم ما يميز هذا المبنى قبابه ومنائره التي ترى من مسافات بعيدة جداً، وأميزُ هذه القباب هي القبة الذهبية التي يبلغ محيطها 68 متراً ارتفاعها 46 متراً وتحتوي على 72 ألف طابوقة ذهبية قد وصفت بانها من اكبر قباب الأئمة في العالم الاسلامي. حول هذا المبنى وعلى جدران صحنه الخارجية مباشرة قامت عشرات الدكاكين الخاصة بالملابس النسائية والرجالية ذات الزي القروي الى جانب دكاكين العطارين وباعة الفواكه الذين تفننوا في طريقة عرضهم وذلك باستعمال رفوف عمودية ترتفع الى بضعة أمتار تمنح المشهد جمالاً خاصاً ولا تؤثر في سعة الشارع. ومقابل هذه الدكاكين تزدحم المدينة بمئات المقاهي والمطاعم والاسواق الصغيرة والمحال التجارية والكماليات كما يزدحم الشارع المقابل للصحن الشريف بستوديوهات التصوير والمكتبات ودكاكين الاقمشة ومحال بيع السبح والهدايا والتحفيات بعدد كبير من الفنادق ويندر ان يخلو هذا المركز من الزحام لأنه ملتقى آلاف السياح والزوار الذين يقصدون المدينة وعتباتها المقدسة من ارجاء العراق وبلدان العالم، كما انه ملتقى الريف المحيط بسامراء حيث يقصد المدينة لنقل بضاعته أو تلبية احتياجاته القروية.
حكاية الرجل والمرأة
بل هي حكاية مجتمع يمتلك قدراً من الخصوصية ليس بدءاً من السامرائية المنتسبة الى جيل العباءة لانها تعيش في مجتمع محافظ جداً، ترتفع فيه الصلوات الخمس من عشرات الجوامع والمساجد. وفي مدينة لها قدسيتها الكريمة، ولكن ابتداء من المرأة التي تخبئ تحت عباءتها شهادة المعلمة والطبيبة والقانونية والمهندسة والموظفة والمثقفة ومن غير ان يشعرها ذلك بالتناقض ابداً حتى وهي تجمع على قدم المساواة بين مسؤوليات الام والطبخ والنفخ وبين اطلاعها على آخر ابتكارات الازياء وآخر صيحات الفن والأدب انها (المحافظة التقدمية) وليس من علاقات الجيران الحميمية وتكافلهم الاجتماعي عند اللزوم والحاجة والوفاة، ولكن ابتداء من شهامة السامرائي واعتزازه بالنفس وحبه المبالغ لمدينته حتى ليذهب ببعضهم الى الايمان بان سامراء مركز الكون وموطن الخليقة الاولى!
وبخلاف ذلك فانه يقبض في كف واحدة بين صفته العشائرية وبين انتسابه الى الحضارة طباعاً وسلوكاً وقبل ذلك فأن هذا المجتمع الصلب القوي الخشن اللين المتسامح الكريم يفاخر بسعة علاقاته مع العراقيين بحكم تجارته الواسعة، وبحكم مدينته الدينية التاريخية السياحية وأهم من ذلك فأنه شغول لا يعرف الكسل منذ انجابه احلى واشهر بطيخ الى توسعه نحو محاصيل استراتيجية لم يزرعها من قبل ليصبح اليوم منافساً فيها ومنذ محدودية دونماته الى 115 ألف دونم عامرة بشتى المحاصيل، الى براعته في التجارة الحرة ومقالع الحصو والرمل ومعامل الجص والبلوك والبلاستيك والراشي والقوالب الحديدية التي تؤلف مجتمعة مع معمل الادوية والحي الصناعي الكبير وجهاً حياً من وجوه اقتصاد المدينة. ثم.. وهو في غمرة انهماكه الزراعي والصناعي والتجاري لم يغفل حركة العمران، كما ظل حريصاً مهما كانت طبيعة عمله على ان يكون مالكاً لأرض زراعية بغض النظر عن حجمها لعلمه وتجربته وخبرته بانها الخير والبركة والثروة التي لا تنضب! أين الملوية والحير والأزقة القديمة وأين المتوكلية والعاشق والمعشوق؟
تعليقات ديسكس

0 التعليقات